هذا المقال يشكل دراسة حالة في البيئة السعودية للنظر بعمق في كيفية توظيف الأرقام والاحصاءات، حيث يستقصي المقال ما نشر في الصحف السعودية لأكثر من ثمان سنوات عن نظام ساهر بحصر وعرض المقالات المدعمة بأرقام واحصاءات
عند تأسيس وزارة المواصلات عام 1372ه (1953) كان مجموع أطوال الطرق لا يزيد عن 239 كلم، ومع النهضة العظيمة التي مرت بها المملكة العربية السعودية بلغت أطوال الطرق 66,000 كلم، وبلغت الرحلات البرية في عام 2018، 46 مليون رحلة شهرياً، ومع هذه الزيادة ازدادت حوادث الطرق بشكل مطرد حتى أصبحت المملكة الأولى عالمياً في حوداث المرور، وقد نشرت صحيفة الاقتصادية بتاريخ الأحد 18/4/2010 العدد 6033 الخبر التالي: (… ترتفع نسبة الوفيات بين الذكور السعوديين بسبب الحوادث إلى 24 في المائة) أي أن ربع الوفيات من الذكور في المملكة تقريباً سببها الحوادث.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك أعداد أكبر من المصابين والذي قد تصل إصاباتهم إلى العجز الكامل فيتبين خطورة هذه القضية وأثرها. نشرت وزارة الصحة أن نسبة اشغال أسرة العناية المركزة بسبب حوادث السيارات تبلغ 50% من عدد أسرة العناية المركزة و أما الأسرة خلاف ذلك فتبلغ النسبة 30% من مجمل أسرة المستشفيات السعودية، لا شك أن الحوادث المرورية كارثة عظيمة اجتماعية واقتصادية.
بالتوازي مع هذا التوسع العظيم في الطرق وما صاحبه من احتياج لتنظيم الحركة وسلامة الطرق وضبط الحوادث والمخالفات المرورية تم تطوير قطاع المرور لكي يمارس اختصاصاته، ومن ذلك صدور الأمر السامي للتنظيم الآلي لرصد المخالفات المرورية، ومن الجدير بالذكر أن النظام أشار إلى مشاركة القطاع الخاص ذو الخبرة والتخصص مقابل نسبة من الإيرادات التي يتم تحصيلها.
وكان نتاج المشاركة للقطاع الخاص مع القطاع العام في تنظيم الحركة وسلامة الطرق هو النظام الآلي لضبط وإدارة الحركة المرورية (ساهر) وذلك باستخدام أحدث التقنيات كشبكة الكاميرات الرقمية، ورصد عدد المركبات بشكل حي وفوري، وجهاز تتبع مركبات المرور لزيادة كفاءتها وفاعليتها، ونظام التعرف على لوحات السيارات، ونظام اللوحات الإلكترونية الإرشادية ليتجنب السائقيين أماكن الازدحام وأخيراً نظام الضبط الألكتروني للمخالفات آلياً ويشمل ذلك إصدار وإشعار المخالفين.
وأهداف النظام كما نص موقع وزارة الداخلية:
- تحسين مستوى السلامة المرورية.
- توظيف أحدث التقنيات المتقدمة في مجال النقل الذكي لإيجاد بيئة مرورية آمنة.
- رفع كفاءة شبكة الطرق المتوفرة حاليا.
- تدعيم الأمن العام باستخدام أحدث أنظمة المراقبة.
- العمل على تنفيذ أنظمة المرور بدقة واستمرارية.
وقد أثار نظام ساهر جدلاً ونقاشاً مجتمعياً كبيراً، فهل ثبتت جدوى هذا النظام في تحقيق أهدافه؟ أم أن هذا النظام وجد لتحصيل أكبر قدر من الغرامات المالية والتي يذهب جزء منها للقطاع الخاص؟ انعكس هذا الجدل المجتمعي على المقالات التي نشرت في الصحف السعودية لمناقشة ساهر ومدى تحقيق أهدافه، وقد شكلت هذه المقالات دراسة حالة مميزة في البيئة السعودية للنظر بعمق في كيفية توظيف الأرقام والاحصاءات، وبعد تتبع ما نشر في الصحف السعودية لأكثر من ثمان سنوات تم حصر عشرات المقالات المدعمة بأرقام واحصاءات، وقد تم تجاوز المقالات الانشائية…
وسيتم عرض المقالات بتسلسل تاريخي، بحيث نتتبع المقالات التي تنشر الدراسات التي تؤيد نجاح ساهر أو فشله مع الحرص على عرض جميع المقالات ولو كررت نفس الدراسة، وسيتم عرض المقالات التي أشارت للأثر الإيجابي أولاً.
المقال الأول: في تحقيق نشر في صحيفة الرياض بعنوان “في أحدث تقييم للجهات ذات العلاقة بتقييم الأداء لنتائج (نظام ساهر)، تراجع أعداد الحوادث المرورية والوفيات والإصابات إلى 38% في الرياض خلال أربعة أشهر” وذلك بتاريخ 28/9/ 2010، العدد 15436، والمقال مدعم برسومات بيانية وقد نقل التحقيق هذه الاحصائيات عن العميد عبدالرحمن بن عبدالله المقبل مدير مرور منطقة الرياض مدير مشروع “ساهر” بناءً على احصائيات المتابعة لنتائج ساهر الصادرة من وزارة الصحة وهيئة الهلال الأحمر.
المقال الثاني: ونشرت صحيفة الاقتصادية بنفس التاريخ 28/9/ 2010 الأرقام السابقة مشيرة إلى إحصائيات وزارة الصحة، والمقال مدعم أيضاً برسومات بيانية وصور ضوئية من مخاطبات وزارة الصحة
المقال الثالث: كما نشرت صحيفة عكاظ بتاريخ 5/11/ 2010 خبراً بعنوان: “بعد تطبيق ساهر.. قائد قوات أمن الطرق لعكاظ: انخفاض وفيات حوادث الطرق السريعة 52%”
المقال الرابع: وفي مقال نشر في صحيفة الرياض بتاريخ 28/ 1/ 2012 بعنوان “إدارة المشروع: حرص على متابعة النتائج بشكل مستمر والعمل على تعزيز الجوانب الإيجابية وتقويم الجوانب السلبية. انخفاض أعداد الحوادث المرورية بنسبة تجاوزت 36% بعد تشغيل ساهر في جدة” المقال مدعم بعدد من الرسوم بيانية والجداول.
المقال الخامس: ونشرت صحيفة الشرق بتاريخ 6/2/ 2012 عن العاصمة المقدسة العنوان التالي:
“انخفاض التلفيات %15 والإصابات %29 والوفيات %15
العاصمة المقدسة: تراجع وفيات حوادث المرور بعد عام من تشغيل “ساهر”
المقال السادس: ونشرت صحيفة اليوم مقالاً بعنوان “مؤتمر بالرياض: السرعة وقطع الإشارة يمثلان 31% من أسباب الحوادث”، وذلك بتاريخ 9/12/ 2013، وكان مما ذكر في المقال “.. والعام الماضي شهد انخفاضا في عدد الحوادث والإصابات في المملكة بعد تطبيق نظام (ساهر) وتقليص عدد الوفيات بسبب الحوادث انحصر داخل المدن الرئيسة في المملكة مثل مدينة الرياض التي انخفضت فيها الوفيات بنسبة 23%.”
المقال السابع: ونشرت صحيفة الوئام بتاريخ 1/6/ 2014 العنوان التالي:”تمت وفق خطة ميدانية قائمة..إحصائيات المرور تكشف انخفاض الحوادث والوفيات خلال نصف عام”
المقال الثامن: نشر موقع العربية دراسة لمركز الملك عبدالله للأبحاث حول نظام ساهر بتاريخ 5/12/ 2013 مع تسليط الضوء على انخفاض معدل الحوادث القاتلة دون الاشارة لزيادة عدد الوفيات والتي سلطت اعليها الدراسة الضوء! حيث كان عنوان المقال “يهبط بمعدلات الحوادث القاتلة في المدن السعودية: انخفضت في العاصمة الرياض بنسبة 23% ومحافظة جدة بأكثر من 35%”
المقال التاسع: بتاريخ 18/8/2015 نشرت صحيفة اليوم عن ما أطلقت عليه أول دراسة أكاديمية لتقييم نظام الضبط الآلي للمخالفات “ساهر” وكان عنوان المقال “ساهر نجح في خفض المخالفات.. وفشل في الحوادث المرورية”
المقال العاشر: نشر موقع العربية بتاريخ 8/2/2017 مقالاً بعنوان السعودية .. هذه نسب خفض الوفيات المرورية بعد “ساهر” وكان نصه “أعلنت دراسة قام بها باحثون من مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية (كيمارك) عن خفض نظام “ساهر” نسب الوفيات الناجمة عن الحوادث المرورية في السعودية بنسبة 37.8٪…”
وأما المقالات التي أشارت أن أثر ساهر محدود أو لم يؤدي الدور المطلوب منه فهي كالتالي:
المقال الأول: نشرت صحيفة الوطن بتاريخ 5/12/ 2013 مقال بعنوان ” مركز الملك عبدالله للأبحاث: “ساهر” لم يخفض “الوفيات،“ وفي عنوان مقارب سلط الضوء على دراسة مركز الملك عبدالله للأبحاث أكدت صحيفة الاقتصادية بنفس التاريخ على أن “المرور يتجاهل 69 % من أسباب الحوادث .. وضعف تطبيق الأنظمة سبب زيادة الوفيات“
المقال الثاني: بتاريخ 15/ 1/ 2014 نشرت صحيفة الاقتصادية العنوان التالي “رغم «ساهر» .. 24 % ارتفاعاً في وفيات الحوادث” علماً أن المقال مدعم وبشكل مكثف بالأرقام والرسوم البيانية
وهناك إشارات لعدم وجود بيانات حول أثر نظام ساهر سلباً أو إيجاباً:
وفي هذا الإطار تصريح من أمين عام لجنة السلامة المرورية حول أداء نظام ساهر وذلك أنه بتاريخ 4/4/ 2013 نشرت صحيفة اليوم تحقيقاً بعنوان “الشرقية: حوادث المرور شبح لا مفر منه .. و«ساهر» أصبح مكشوفاً للجميع”، وعندما سأل أمين عام لجنة السلامة المرورية في المنطقة الشرقية المهندس سلطان الزهراني عن تقييمه لنظام المرور ساهر قال ما نصه” ليس لدي معلومات متوفرة عن ساهر أو إحصائيات”
لماذا هناك مقالات تكشف عن الأثر الإيجابي في تراجع عدد الحوادث والوفيات والإصابات، و مقالات أخرى تستند إلى أرقام واحصاءات ودراسات تؤكد على أن ساهر ليس له أثر ايجابي أومحدودية أثره، فإذا كان النظام آلي وتسجيل المخالفات آلي فلماذا هذا الاختلاف؟ أليس من السهل مقارنة رقمين مسجلين بشكل تلقائي في جهاز الحاسب الآلي؟ ما معنى الحوادث، الوفيات، والإصابات؟ هل الوفاة خاصة بمن توفي في موقع الحادث أم يشمل من توفي في المستشفى بعد الحادث ولو بحين؟ هل الإصابة التي لا تتطلب نقل للمستشفى تحسب ضمن الإصابات أم تلك فقط التي تتطلب نقلاً للمستشفى؟ كيف تتم المقارنة قبل وبعد تطبيق نظام الرد الآلي “ساهر”؟ هل تتم بين فترتين زمنيتين متكافئتين كزحام الحج أو الأعياد أو الإجازات؟ هل تتم المقارنة بين نوع واحد من الطرق (طرق داخل المدن أو طرق سريعة خارج المدن) أم نوعين مختلفين؟ عندما تتم المقارنة بين المواطنين وغير المواطنين هل أخذنا في عين الاعتبار نسبة ملكية السيارات ونوع المهنة والتي قد تتطلب قطع كيلومترات أكثر كسائقي الليموزين والتاكسي؟ هل أخذنا بعين الاعتبار نسبة زيادة السيارات في الطرق أم أن الأعداد كانت مجردة؟ ما نوع العينة التي تمت دراستها وهل هي ممثلة للدراسة؟ وما هي الجهة التي قامت بالدراسة وهل هي مستقلة؟
هل الاحصاء علم مطاطي هلامي؟ وما هي ما أسباب حدوث هذا التعارض؟ وكيف يجب التعامل مع الأرقام والاحصاءات؟
وسأعرض في هذه المدونة مستشهداً بالحالة السعودية بشكل أساس، ومن خلال المقالات سأعرض عدداً من المفاتيح البنائية على مستوى الفرد التي تساعد على فهم الأرقام والاحصاءات بشكل أعمق وأدق وهذا هو لب المدونة، من خلال تطبيق هذه المفاتيح البنائية على عدد من الحالات الجدلية في البيئة السعودية لنعمق فهمنا ونتمكن من التطبيق.