ربما يظن الشخص أن تطور العلم يستلزم عقلاً منفتحاً للرأي والرأي الآخر، متقبلاً للخلاف، دافعاً باتجاه رؤى وتفسيرات متنوعة للظاهرة الواحدة، لكن وجدت تعصب للرأي وللسائد من الأفكار، ومحاربة للجديد وتسفيه للمقابل بل وجدل ونقاش يصل لحد الاحتراب الفكري على منابر المؤتمرات وفي المجلات العلمية، ووجدت تصنيفاً مقيتاً للباحث مع هذا الفريق أو ذاك، يكفيك الاشادة بفلان أو الاحالة لفلان أو نقد هذا الشخص أو ذلك، تعلمت كذلك أنك إذا أردت أسرع وسيلة لرد ورقة علمية تجرأ وانقد علماً مشهوراً أو نظرية سائدةً فمهما كان نقدك موضوعياً فالغالب أنه لن يجد طريقاً للنشر. وإليكم هذه النماذج:

الأول: هو عالم الاجتماع هارولد غارفنكل Harold Garfinkel وهو الذي أسس مدرسة الاثنوميثودولوجي في علم الاجتماع في ستينيات القرن الماضي، وهي باختصار تطبيق لفلسفة الفنومونولوجي في علم الاجتماع وتعنى بتفسير البدهيات الاجتماعية، لهذه المدرسة نظرة مختلفة تماماً عن كل النظريات الاجتماعية لتفسير الفعل الاجتماعي، هذه النقطة جعلت هذه المدرسة تحت حراب مدارس علم الاجتماع بكل اطيافها، الآن غارفنكل –توفي عام 2011- من أشهر علماء الاجتماع ومدرسته التي أسسها متميزة في أمريكا وأوروبا –خصوصاً بريطانيا- وفي أستراليا بل حتى في اليابان لها اتباع، هذه المدرسة أثرت في علماء الاجتماع المعاصرين كأمثال پيير بورديو و أنتوني غيدنز.

لا يهم التفصيل في شأن غارفنكل ومساهماته في علم الاجتماع وأهم آراءه وأفكاره، لكن المهم أنه في بداياته واجه هجمة شرسة جداً حتى أن رئيس الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع لويس كوزر في خطابه الرئاسي للجمعية عام 1975 وصف الإثنوميثودولوجي بـ “التفاهة المحرجة”، وبـ “التفرد والتعصب الطائفي”، وكما يذكر عن غارفنكل أنه واجه صعوبات كبيرة في نشر آراءه حتى ذكر عنه أحد تلامذته أن بعض أبحاثه التي أراد نشرها في بداياته لم تنشر إلا بمساعدة شخصية من المحرر!

الثاني: لودفيش فيتغنشتاين الفيلسوف النمساوي ربما هو أهم فلاسفة النصف الأول من القرن العشرين درس بكامبرج ببريطانيا وقد أثنى عليه برتنارد رسل،كما أثنت على حلقة أو دائرة فينا –وهي تمثل مجموعة من الفلاسفة الذين كانوا يجتمعون في جامعة فينا في عشرينيات القرن الماضي- بعد أن ألف رسالة منطقية فلسفية في علاقة اللغة بالحقيقة بعنوان تركتاتورز، ترك الفلسفة بعد ذلك لفترة من الزمن ثم عاد ونقض كتابه السابق في كتاب آخر له بعنوان بحوث فلسفية نشر بعد وفاته، بعد نشر الكتاب الثاني انقسم الناس حيال كتاباته بين مؤيد ومعارض شديد المعارضة.

قال عنه برتناد رسل –الفيلسوف البريطاني الشهير ومعلم فيتغنشتاين الأول- ((احترم التركتاتوز لفيتغنشياين، لكن لا احترم أعماله الأخيرة، والذي يظهر أنها تنطوي على نكران لمواهبته الرائعة..))، الآن أعمال فيتغنشتاين أكثر حضوراً وقبولاً بين مختلف العلوم كالفلسفة، واللغة، وعلم النفس وغيرهم.

الثالث: فليب آغر Philip Agre، أستاذ دراسات المعلومات المشارك بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس. في منتصف التسعينات كان يدير قائمة بريدية لها تأثير كبير في الولايات المتحدة الأمريكية ولمدة قاربت العشر سنوات. كما أنشأ نشرة إخبارية شهرية لمدة سنتين ونصف تعنى بأخبار الشبكة والديمقراطية. دَرّسَ بجامعة شيكاغو، وجامعة ساسكس في بريطانيا، وجامعة كاليفورنيا سان ديجو، حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراة في هندسة وعلوم الحاسب الآلي فرع الذكاء الصناعي من معهد إم آي تي الشهير، رسالته في الماجستير كانت حول نموذج رياضي في التخطيط في فرع الذكاء الصناعي، كان عمله رائعاً بكل المقاييس وتعتبر من الأبحاث المؤثرة وحيث يقترب عدد الاحالات عليها من الألف.

وأما في الدكتوراة فكما ذكر عن نفسه أنه وصل لنتيجة أن الطريقة السائدة التي تتم بها أبحاث الذكاء الصناعي والمعتمدة على النظرة العقلانية لتفسير الفعل الإنساني طريقة عقيمة وتوصل لطريق مسدود. بدأ البحث عن نظريات أخرى لتفسير الفعل الإنساني، قرأ كثيراً في علوم الإجتماع والنفس والفلسفة وغيرهم، وبنظرة سريعة لقائمة نشرها للكتب التي شدت انتباه وقرأها أو اطلع عليها خلال عشر سنوات سيجد الشخص نفسه أمام باحث واسع الإطلاع، كيف لا وخلفيته في العلوم الطبيعية قوية جداً كدراس في أم آي تي وكباحث ومطور لنماذج رياضية في الذكاء الصناعي، وفي نفس الوقت اطلاعه على العلوم الاجتماعية واسع.

تأثير آغر انتقل لمشرفه بروك في جامعة أم آي تي ومنه انتقل لحقل الذكاء الصناعي، آغر لم يكن مقتناً بذلك وكان يرى أن مجال التأثير أكبر من مجرد كلمات توضع في الأبحاث بل هي عملية إعادة صياغة لحقل الذكاء الصناعي. قرأت لآغر معظم ما كتبوه وخصوصاً خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، آغر كتاباته سواءً الكتب التي ألفها أو البحوث التي نشرها رائعة وجميلة مع عمق في الفكرة وسهولة في الصياغة.

بعد تخرج آغر عام 1989 لم يعمل في حقل الذكاء الصناعي طويلاً بل انتقل للعمل في حقل الانترنت والخصوصية ونحو ذلك واصبح من البارزين في هذا المجال، وسبب تركه للذكاء الصناعي كما قال عن نفسه في مقالة نشرها عام 1995 -بعنوان الروح ربحها أو خسارتها: الذكاء الصناعي كمشروع فلسفي- هو عدم تقبل مجتمع الذكاء الصناعي لأية أفكار دخيله عليه. ذكر في مقالته أن أحد المراجعين لورقة علمية أرسلها لمؤتمر الذكاء الصناعي عام 1990 قال “بشكل عام ، تجنب كتابة أوراق بحثية بنمط “الرجل العجوز العظيم” حتى تبني عدداً من النظم المحددة وتصبح عجوزاً عظيماًً”.

عام 2009 هجر آغر عمله وشقته واختفى، طلبت شقيقته من الشرطة البحث عنه وذكرت أنه مصاب بمرض نفسي والذي ربما كان السبب فيما حصل له، أنشأت طالبته السابقة والأستاذة بجامعة واشنطن شارلوت لي صفحة له في الإنترنت كتب فيها أصدقاءه وطلبته يدعونه للظهور والعودة لمكانه ويعرضون تقديم يد المساعدة والعون له، من قرأ تعليقات زوار الصفحة وجد رجلاً صاحب تأثير كبير سواءً في طلابه في الجامعة أو الباحثين في مجال ثقافة الانترنت والذكاء الصناعي، آغركان عمره عند اختفائه كان 49 سنة، وبعد سنة وجدته الشرطة وهو في صحة جيدة كما ذكروا دون اعطاء أي تفاصيل بناء على طلبه أن يتم احترام خصوصيته وطلب من الشرطة أن يبقى وحيداً دون اتصال بأي أحد، أخته لم تقنع بذلك لاعتقادها بسوء حالة أخيها الصحية، وقد ذكر أحدهم ممن يعرفه معلقاً أن آغر الآن من المشردين ويمكنك رؤيته في مكان –ذكره في تعليقه- وهو مكان لاجتماع المشردين وذلك في يوم من كل أسبوع كما ذكر صاحب التعليق.

الرابع: نكتة سوكال (Sokal Hoax)، وقعت الحادثة في منتصف التسعينات الميلادية لها ارتباط وثيق بالحركة النقدية وحركة الدراسات الثقافية، تشتهر هذه الحادثة باسم نكتة سوكال (Sokal Hoax)، العالم الفيزيائي آلن سوكال نشر مقالاً بعنوان “تجاوز الحدود: اتجاه هرمنيوطيقا متحولة لجاذبية الكم[1]، والمقال نشر في مجلة النص الإجتماعي – وهي مجلة شهيرة نشر فيها عدد من أساطين ما بعد الحداثة- في عدد خاص حول حرب العلوم. وربما بعض الخلفية عن الموضوع أمر لا بد منه…

حرب العلوم هي السجال بين العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية –على الأخص حركة ما بعد الحداثة وحركة الدراسات الثقافية-  حول نسبية الحقيقة وطريقة العثور عليها، بعبارةٍ أخرى يقول أصحاب حركة ما بعد الحداثة أن ما ينتجه العلم من حقائق علمية هي نسبية متفق عليها بين علماء في زمن ومكان محدد –وهو ما يمكن تسميته بالبناء الاجتماعي- وهي تتغير بتغير الزمن، وليست منفصلة عن الأشخاص الذين صاغوها، على سبيل المثال فيزياء نيوتن هي نتائج بناء اجتماعي في زمن نيوتن، وقد عرفت ما يمكن تسميته حقيقه في ذلك الزمن وهي ليست أمراً منفصلاً في الخارج عن الانسان ولهذا استبدلت بالنظرية النسبية وفيزياء الكم، وعلى هذا فالحقائق العلمية نسبية.

ربما كلمة نسبية مشكلة جداً وخصوصاً عند ارتباطها بعملية البناء الاجتماعي للحقائق، وهناك تفسيران أن العلوم الفيزيائية تماماً كالعلوم الإجتماعية هي نتاج لعملية البناء الاجتماعي ولهذا فلا يوجد حقيقة مطلقة وإنما هي نظرات مختلفة باختلاف الاشخاص والأزمان وكلها حقائق وهذا التفسير ينسب للبرنامج القوي أو الصلب في علم اجتماع المعرفة العلمية، باختصار هي نسبية مطلقة! وهذا الرأي منسوب لمدرسة إدنبرج البريطانية، وأما التفسير الآخر أن هناك حقائق علمية وقوانين ونواميس تحكم الكون وهي موجود بشكل منفصل عن الإنسان لكن الوسائل العلمية المتاحة لا تقود لهذه الحقائق، شخصياً أرى المحصلة واحدة من الرأيين وإن اختلفوا في طريق الوصول… طبعاً أصحاب الرأي الأول يقال لهم من لازم كلامكم أن رأيكم وعملية البناء الإجتماعي هي حقائق نسبية متغيرة!

ثم ماذا؟ الكلام السابق اشعل حرباً ضروساً بين مدرسة ما بعد الحداثة وعلماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرهم من العلوم الطبيعية، فعلماء الطبيعة رؤوا أن حركة ما بعد الحداثة تريد هدم الحضارة الغربية والتشكيك بكل شيء أو قل هدفها تفكيك العلم كما شرعت في تفكيك الأديان والآداب، امتدت الحرب لمؤتمرات وورش عمل ومقالات علمية وكتب بل وحتى حرب على مستوى التوظيف في الجامعات!

وأطرف ما في الموضوع أن البرفسور سوكال نشر مقالته “تجاوز الحرمات: اتجاه هرمنيوطيقا متحولة لجاذبية الكم” والتي تعمد فيها استخدام لغة ما بعد الحداثة –وهذه اللغة بشهادة عدد من العلماء كنعوم شومسكي هي لغة كتبت لكي لا تفهم-، باختصار أرسل سوكال المقال لمجلة النص الاجتماعي مع تأكيد خلال النص أنه ومن منطلقات فيزياء الكم سيثبت أن الحقيقة نسبية مطلقة وأن العلم مرتبط بالأجنحة السياسة وانتقد في طول المقال وعرضه الجمود الفكري لعلماء الطبيعة وغير ذلك مما يردده ما بعد الحداثيون…

لكن الفضيحة والتي عرّت مجلة النص الاجتماعي أن سوكال نشر بالتوافق مقالاً آخر في مجلةٍ أخرى يذكر تجربته مع مجلة النص الاجتماعي، وأكد سوكال أن مقاله منشور بلغة جيدة من جهة التركيب اللغوي ما بعد الحداثي، وأما من جهة فيزيائية فأي شخص لديه معرفة بعلم الفيزياء سيدرك أن كل ما كتب إنما هو دجل وخرافة لا معنى له، ولو أن ناشري مجلة النص الاجتماعي –وهم من المتخصصين في الدراسات الثقافية- عرضوه على أهل التخصص لما كان للمقال أن ينشر، ثم أكد سوكال على أن دعاة ما بعد الحداثة والدراسات الاجتماعية يريدون نشر أي شيء يساندهم ولا يهم كونه علماً أو هرطقةً!!! ومن أشد وأنكى ما في الموضوع أن المقال نشر في العدد الخاص بحرب العلوم والذي خصص للرد على علماء الطبيعة الذين ينتقدون حركة ما بعد الحداثة وحركة الدراسات الثقافية.


[1] Transgressing the Boundaries: Towards a Transformative Hermeneutics of Quantum Gravity, AD Sokal, Social Text (1996)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *